100%
رعد كاظم جبارة
زحفُ العشق نحو كربلاء، مشهد يفوق الخيال، فما إن تقترب أيام الأربعين، لا تُقاس الخطى بالأمتار، بل بنبض القلوب المتجهة نحو كربلاء. ملايين الأقدام تطرق دروب العشق، والكل يسير، كأن الأرض تنبض بحبّ الحسين (ع).
ما يخطف الأنفاس أكثر من هذا الزحف المليوني، الكرم العراقي العابر للحدود والخيال. فكل بيت عراقي يصبح موكبًا، وكل شارع يتحوّل إلى ممرٍّ للضيافة، وكل إنسان يُصبح خادمًا للزائرين دون مقابل، فقط ابتغاءً لرضا الله ومحبةً بالحسين (ع).
على امتداد مئات الكيلومترات، تصطف المواكب الخدمية، وهي ليست مجرّد خيام، بل قلاع من الكرم. تُقدَّم فيها مختلف أنواع الخدمات: طعام ساخن على مدار الساعة، علاج طبي مجاني، تدليك لأقدام الزائرين، حلاقة وغسيل ملابس، مترجمون لتسهيل التواصل مع الزوار الأجانب، كل ذلك بلا ثمن، بل مقابل ابتسامة ضيفٍ مُكرّم في قصر الحسين.
ثورة إنسانية
المشهد الأكثر تأثيرًا ليس في وفرة الخدمات، بل في من يُقدّمها. فالعطاء لا يقتصر على الأغنياء، وإنما يمتد إلى الفقراء الذين يعطون مما يحبّون، حيث ترى امرأة مسنّة تجلس على قارعة الطريق تمد يدها بالتمر والماء، وطفلًا يحمل سلة حلوى وينادي: "تفضّل يا زاير!"
شرف خدمة زائري الحسين يدفع بالكثير منهم إلى بيع ما يملكون من أجل إقامة موكب صغير، إنها لحظة تختفي فيها الفوارق الطبقية، ويبقى وجه العراق الحقيقي، المعطاء بلا حدود.
مسيرة الأربعين ليست مجرد طقس ديني، بل مدرسة حيّة في الأخلاق والإنسانية، فيها، يُعطيك الآخر ما لا يملكه لنفسه، رجل يخلع حذاءه ليمنحه لزائر، وآخر يصرّ على استضافتك في بيته المتواضع وكأنك من عائلته. إنها ثورة صامتة بالأقدام، تعلّم العالم أن القيم لا تموت ما دام هناك حسين في القلوب.
دهشة الغرباء
ظاهرة الكرم في الأربعين لم تَعد خافية على أحد، الإعلام الدولي بدأ ينقل تفاصيلها بدهشة: صحفيون صوّروا المواكب وقالوا: "لم نرَ شيئًا كهذا في حياتنا!" أبناء ديانات مختلفة شاركوا في المسيرة، وتأثّروا حد البكاء. أحدهم قال: "لو كان الإمام الحسين ملكًا، لما رأينا هذا.. لكنه الشهيد، الذي تهتف الملايين له." مشهد ينسف الصور النمطية عن العراق، ويقدّمه للعالم كبلد يفيض بالحبِ.
كرم العراقيين في الأربعين ليس طارئًا، بل ثقافة متجذّرة في الأعماق، ثقافة ترى في كل زائر ممثّلًا للحسين، وأن في خدمته أجرًا عظيمًا، إنها رسالة حضارية تقول: "في العراق، ورغم الجراح، ما زال هناك شعب يعطي من قلبه، ويُكرم، كما الملوك."
كربلاء ليست مكانًا فقط، بل قلبٌ نابض بالكرم، وفي مسيرة الأربعين، ترى العراق الحقيقي، العراق الذي يهبك قبل أن تطلب، العراق الذي لا يُعرَف بثرواته فقط، بل بثروة لا تُشترى: شعبه، وكرمه، وحسينه.